jeudi 21 mai 2009

سنة أولى ثانوي في باريس

البداية

البداية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لست أدري أين هي البداية... لأن البداية هي بداية شيء. وهذا الشيء ليس واحداً، ولو تابعنا الخط الزمني وقدمنا العلم على الأدب، لقلنا إن المسار بدأ وأنا في السنة الثالثة من التعليم المتوسط مع ثاني درس في الرياضيات.
كانت صدفة نادرة، وحياتي مليئة بالصدف التي ساعدتني على السير في هذا الدرب. الصدفة أني حفظت على غير عادة درس الرياضيات هذا اليوم، ولم أكن أحفظ الدروس إلا قبيل الامتحانات، ولم أكن متفوقاً في هذه المادة، والصدفة الثانية أن أستاذنا كان متميزاً ذا ذكاء خارق للعادة، وقيل إنه يحمل شهادة عالية فلقبناه بالدكتور.
ولم أدر ما حدث هذا الصباح من بداية السنة الدراسية، لعلي نظرت إلى الدكتور نظرة الفاهم فطلب مني أن أذهب إلى السبورة أو أنه فقط اختار في قائمته من بين التلاميذ الثلاثين اسمي بالصدفة. النتيجة هو أنه قال بنبرته الدقيقة مثل علمه: السيد حركات تفضل إلى السبورة.
وذهبت إلى السبورة وأجبت على أسئلته ورأيت بعد الأجوبة نوعاً من الغبطة تظهر على ملامحه، الغبطة التي يشعر بها كل أستاذ عندما يلقى التجاوب لدى تلميذه. وقبل أن يقول لي شكراً ويسمح لي بالرجوع إلى مقعدي، اتفقنا خلال ثانية من الزمن، دون أي كلام، على شيئين: هو على أنني سأكون أفضل تلاميذه في القسم بل وفي الثانوية، وأنا على أنني أختار درب الرياضيات.

في الحقيقة هذه البداية مبتورة أو هي منعرج، لأن بدايتي الحقيقية كانت مع الأدب فكنت أقرأ كثيراً، وأشعر بمتعة كبيرة خلال القراءة، وأحلم بأن أكون في يوم ما كاتبا ذا أهمية. والغريب في الأمر أنني لم أكن أحلم بأن أكون عالم رياضيات، وإنما كل النجاحات التي أحرزت عليها في هذا الميدان جاءت نتيجة الموهبة والعمل...
الميل الأدبي لم يسقط ولكن الممارسات الرياضية امتصته امتصاصاً...

منذ يـوم الصعود إلى السبورة أصبحت الرياضيات شغلي، ونسيت المطالعة والأدب ... وممارسة مادتي المفضلة كانت عبارة عن حل التمارين والمسائل ... فكنت منشغلا بهذه الحلول طوال الوقت حتى في الدروس الأخرى... لا أظن أنني منذ ذلك اليوم استمعت إلى درس في التاريخ أو الجغرافية أو الفرنسية أو العلوم أو حتى الفيزياء. كنت آخذ ورقة صغيرة، وفي الخفاء أحل التمارين الواحد تلو الآخر...

كان الدكتور يتابع تلاميذه حتى الأقسام النهائية، ويختارهم. وكان تدريسه صعب المنوال يعالج فيه البرنامج بطريقته الخاصة، يبدأ مسألة وإذا أنهى أجزاءها يضيف لها ارتجالاً أسئلة. ولم تكن السبورة لتسع رسومه فكان يمد المستقيمات والدوائر على الحائط، صاعداً نازلاً، وأحياناً ينسى أن أمامه قسما كاملا، ضائعا، لا يفهم شيئاً...فينظر إلي ويسألوني، وكأن كل هذه الممارسات تدور بيني وبينه، فيقول: السيد حركات، هل فهمت؟
فأتمتم: نعم ...
سواء فهمت أم لم أفهم ...
وذات يوم رأيت أن أخرج عن نطاق الإجابة عن أسئلة الفرض فبدأت أبحث في اتجاهات مختلفة بطريقة شخصية، ولكن عند إرجاع الفرض قال لي الأستاذ بأن أبحاثي ترعي الانتباه ولكنها خاطئة. ورجعت بهذا إلى الطريق الصحيح: التعليم يقتضي منا في هذه المرحلة التعلم وحده، التعلم بدون بحث ولا ابتكار...

لم أكن أحفظ دوماً دروسي. ذات يوم أجبت على مسألة بطريقة مبتكرة شيقة أعجبت الأستاذ، وكان السبب في ذلك أنني لم أستعمل النظريات التي تطبق على المسألة نتيجة كسلي الذي جعلني لا أراجع هذه النظريات!!!
وشاع في كل الثانوية أن الدكتور صعبت عليه ذات يوم مسألة ولم يجد لها حلا إلا بمساعدتي... لا أذكر هذه الحادثة ولكن قدماء الثانوية مازالوا يتذكرونها...

ذات يوم وقع لي قبل الامتحان حدث في رياضة كرة اليد، فأصابني عطب في يدي وصعبت علي الكتابة، وبعد ربع ساعة من الجهد أرجعت الوثيقة إلى الأستاذ وقد كتبت بعض الأسطر فيها فقط... الدكتور لم يرض بهذا فذهب للإدارة باحثاً عن مراقب ليكتب تحت إملائي... ولكن الإدارة رفضت ... فألغى الأستاذ الامتحان وأعاده بعد شفائي من يدي ...

الطريق كان إذاً معبداً أمامي فأنجزت بعد البكالوريا الليسانس في الرياضيات ولكني لم أطمح إلى دكتوراه في هذه المادة، وذلك أن ميولي الأدبية برزت من جديد...

مقدمة أهنال

مدخل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان لزاما علي أن أؤلف هذا الكتاب لأدون فيه آرائي حول العلم والثقافة والمجتمع واللغة والتعليم، وذلك من خلال مساري العلمي والثقافي. وكنت أؤجل في كل مرة هذا المشروع لأنه كان أمامي دوماً مشروع آخر أظن أنه أهم وأفيدُ.
والدافع الذي جعلني أرفع القلم هذا الصباح هو أني ربما تعبتُ من البحث اللغوي والتأليف النظري، وأنني في حاجة إلى استراحة، والصيف الذي دخل منذ أيام هو بالنسبة لي فصل متعة وراحة... ولكن متعتي ليست في الفراغ وأنا كما قال الكاتب الفرنسي أناتول فرانس في كتاب سماه {راحتي الوحيدة هي العمل}، لا أهدأ إلا أمام ورقة أو آلة كاتبة، ولا أنعم بالراحة إلا عندما ينشغل عقلي بتدوين الأفكار والكلمات.
واعتدت التأليف ، خلال هذه السنوات، متبعا إيقاعا تناوبيا يجعلني مرة أنصب في كتاب علمي أرضي به جانبي الدّيكارتي، العقلاني، ومرة أرضي مشاعري وعواطفي من خلال رواية أو قصة أو قصائد ...
وفي السنتين الماضيتين، خالفت شيئا ما هذا العادة واندرجت في سلسلة التأليف العلمي لمدة ثلاث سنوات متتابعة أصدرت فيها ثلاث كتب كلّفتني الكثير من المشقة... وكثيراً ما تأتيني فترة تعب وإرهاق خلال التأليف والبحث... إرهاق شديد لا تزيله الراحة لأن الانقطاع عن المشروع متعب في حد ذاته... وأستمر في العمل رغم هذا الإرهاق الذي قد يدوم الشهر أو أكثر، وتنقشع ذات يوم الغيوم وتأتي الراحة بعد التعب وأستمر في المشروع مخصصاً له كل وقتي... فلا أهتم بملابسي أو سيارتي ... ولا بالرياضة التي كنت أمارسها بصفة منتظمة. وأحيانا أشعر بأن الذهاب إلى الحمام يشغلني عن البحث!!!
وكنت أجد غريباً منظر بعض الزملاء الذين يقضون وقتهم في الدردشة... فلا أفهم كيف يضيعون وقتاً أراه أغلى من ذهب!
وكثيرا ما كنت أنهض وسط الليل لأنني اكتشفت شيئاً غاب عني وعن غيري أو حللت مشكلة عويصة أو حددت مفهوما... وأحمد الله على هذا ... وأحمده أكثر في نهاية المشروع فأذيل الكتاب بالعبارة {ثمّ بعون الله وحفظه}... وهذه العبارة لا يفهمها حقّ الفهم إلاّ من عرف صعوبات المخاض، وهذه المتعة الممزوجة بالألم زمان الكتابة والتأليف.

نسيت أن أذكر الدافع الذي دفعني بطريقة مباشرة إلى هذه الورقة وهو أنني بالأمس وأنا أفتح بريدي الإلكتروني، وجدت رسالة من مؤسسة طلبت منها دعماً لمشروع كان في طريق الانجاز... ولم أكن أُدعَّم من قبل، فكنت أصرف نقودي الخاصة من أجل الطباعة والنشر والتوزيع... وجدت رسالة تقول لي فيها هذه الجهة: إنها آسفة على عدم تبنيها لهذا المشروع ... أشكرهم، فلولاهم لما كنت هذا الصباح أمام هذه الورقة.
كما أشكر كل من حاولوا عرقلة مشاريعي وكل من حاولوا تهميشي، وكل من نقدوني في الخفاء... فهذه العرقلة، وهذا التهميش، وهذا النقد انقلب في كل مرة إلى ايجابيات وتحفيز ...
ولست أدري وأنا الآن أمام ورقة بيضاء ثانية ستتلوها بعون الله أوراق أخرى، لست أدري ما ستَخُط يدي وما سيدون في هذا الكتاب من أفكار لأنني قررت أن أرتجله ارتجالاً وأن أنهج نهج العفوية بدلا من نهج التنظيم المحكم ...
وفي الحقيقة إني كتبت هذا الكتاب مراراً، ولكن في ذهني، وبواسطة كلمات خفية. ولكن المكتوب ليس كالمنطوق، والمنطوق ليس كالفكر الخفي، فهذا همس والآخر جهر، والأول فوق الجهر لأنه ثابتٌ لا يزول أثره إلا إذا تناسته الأجيال وأضاع الزمان رَسْمهُ ...
وأخيراً ليوفقني الله في هذا العمل، وليجعل القارئ يستفيد منه سواء كان قارئاً باحثاً مثقفاً أو قارئاً بسيطاً كما يقال ... والثقافة لا تقاس بالشهادات فهذا البسيط قد يكون له من الدراية والفهم والذكاء ما لا يملكه غيره من أصحاب الشهادات.
وشكري الجزيل لقرائي في زمان قلت فيه القراءة بل كادت تندثر، شكر لطلابي الذين سايروا أعمالي وشاركوني متعة الاكتشافات، لطلبة قسنطينة، الجزائر، الأغواط وكل الجامعات الذين راسلوني بالأنترنات أو تكلموا عني في الندوات، لبعض الزملاء الأوفياء، ولكل من تلقى خطاباً أرسلته ففهمه وأعجب به وسرني وأمتعني الفهم المتبادل كما سره وأمتعه ...
والحمد للمولى عز وجل على رعايته وحفظه.

لقب الدكتوز

لقب الدكتور

كم من طالب في الدراسات العليا تاق للفظة الدكتور فهي تتوج مساره العلمي، وتمنحه العمل والاحترام وبعض الاكتفاء المادي ولا أقول الثراء أو حتى شبه الثراء...
ولكن استعمال هذه اللفظة يختلف من ثقافة لأخرى، فالألمان مثلا لا يجدون حرجاً في إضافة كلمة دكتور إلى أسمائهم، وهذا على اختلاف الشهادات. أما الفرنسيون فإنهم يخصصون اللقب للأطباء حتى أن هذه المفردة أصبحت مرادفة لكلمة طبيب. فيقال : زرت الطبيب أو زرت الدكتور على حد سواء.
أما المشارقة من العرب فإنهم يعطون لهذه الكلمة أهمية كبرى ويؤكدون بذلك على المستوى الجامعي لصاحبها، ومكانته في المجتمع... حتى أنها أصبحت شبيهة بالألقاب الشرفية القديمة عند الغربيين مثل الدوك والبارون والكونت.
أما نحن في الجزائر، أو ربما في بعض المغرب العربي، نحن الذين لم تستقر بعض ثقافتنا, فإننا نوظف هذا اللفظ بطرق مختلفة، ونعطيه دلالات متغايرة ونتعامل معه حسب إيديولوجيات متضادة.

أبرز استعمالين للفظ {دكتور} يتمثل في نطقين مختلفين وفي مدلولين متقابلين. فهناك الكلمة التي نطقها عربي بالتاء المضمومة الممدودة وهي مخصصة للجامعيين الذين أحرزوا على أعلى شهادة تمنحها الجامعة. وهناك {دكتور} بالنطق الفرنسي بدال متبوعة بالصائت {0} وتاء متبوعة بالصائت {eu} الممدود. وهذه الكلمة أي {docteur} المنطوقة حسب النطق الأجنبي, تخصص للأطباء.
هذا الاستعمال المزدوج واضح في خطاب التلفزة والمذياع. فإن استقبل المنشط أستاذاً في الأدب أو القانون أو التاريخ، استعمل النطق العربي. وإن حاور طبيباً استعمل الكلمة بنطقها الأجنبي وأحيانا نراه يستعمل حتى كلمة {بروفسار} إن كان الطبيب يحمل هذا اللقب متجنبا مقابلها العربي {أستاذ}.
هذه الازدواجية في الاستعمال، إن كانت تحمل أثر الازدواجية الثقافية، فهي أيضا تحمل دلالات أخرى: دلالات اجتماعية تقويمية. فاستعمال كلمة دكتور بالنطق الأجنبي تنـزه صاحب اللقب عن أن يكون مجرد شخص جامعي اكتفى بتكديس المعلومات. فهو شخص يداوي وينفع في كل وقت الناس، ويجنبهم المرض أو يشفيهم منه. وشهادته إذن ذات إيجابية مجسدة في الميدان. إضافة إلى كونه في حيز أصحاب الحداثة، فالطب عالمي، متقدم، لا علاقة له البتة بالتراث والتخلف.
وهذا التحليل ليس تحليلاً نظرياً، فبالفعل أساتذة الطب طلبوا، وأظنهم نجحوا في هذا الطلب، طلبوا أن يكون سلمهم في الوظيف العمومي أعلى من سلم أساتذة المواد الأخرى...
وربما هم على حق. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يطالب دكاترة الرياضيات والفيزياء والعلوم الدقيقة، أن تكون أستاذيتهم أعلى من أستاذية الأدبيين؟ ولهم حجة قوية وهي أنهم معرضون لمغريات الغرب ومادياته، وظروف عمله الجيدة، واحترامه للثقافة والعلم...فهم قادرون على الهجرة أكثر من غيرهم...
ولو رجعنا إلى دلالة الكلمتين لرأينا أن اللفظة الأجنبية متفق على مدلولاتها من طرف المجتمع كله. فهي تعني الكفاءة والاحترام، حتى وإن كان بعض الممثلين لا يستحقون هذه العناية، وحتى وإن كان بعض الشبان الحاملين لهذه الشهادة بطالين أو يزاولون مهنا لا تتلاءم مع تكوينهم مثل سياقة التاكسي والتجارة البسيطة والعمل اليدوي...
أما لفظة دكتور العربية النطق فإنها تحمل في طياتها معان متناقضة وسأبدأ بأسوإها.
عند بعض الأشخاص من الجيل القديم, وحتى الحديث، كلمة دكتور مرفوقة بالاحتقار والازدراء. فالدكتور في منظور هؤلاء هو شخص أدبي متمسك بلغة قديمة وثقافة ظلامية وقيم بالية، منهمك ربما على كتبه: لباسه قديم، وهيئته شعبية، وملامحه تدل على التعب المكدس، والقهر الاجتماعي، وهو فقير بطبيعة حاله... فهو إن اشترى سيارة فقد يكون اشتراها بالتقسيط وإن تحصل على شقة تأوي إليها عائلته الكبيرة فإنه تحصل عليها بإعانة من وزارته، وذلك بعد المشقة والتوسل والبحث عن السند والعون من كل الجهات.
وهذا التصور للدكاترة ليس نابعا فقط عن الصراع الثقافي، ومصدره ليس العدوانية المجانية، وإنما هو يحمل في طياته شيئاً من الواقع، فالدكاترة الأدبيون لم يفرضوا أنفسهم في الإدارة والثقافة والسياسة الفرض اللازم، ولم يرقوا بعلمهم إلى الدرجة التي تجعلهم يجابهون بها أصحاب الازدراء والاحتقار.
فأنت إن توصلت إلى فهم ابن جني وسيبويه، والجرجاني، وكتبت أطروحة قد يزيد أحيانا حجمها على الألف صفحة، فكيف لا تستطيع تعلم لغة أجنبية أو تحسين مستواك فيها، حتى تتسع آفاقك على ثقافات أخرى، وحتى تستطيع أن تقف الند مع الند أمام من يزدريك ؟
ومن ناحية النطق فإن المنشط في التلفزة أو الإذاعة إن فصل بين المدلولات بواسطة التعبير الصوتي، فهذا قد يكون نابعا عن مركب نقص أمام طبيب يراد تنـزيهه عن الأدبيات. أما المزدري فإن ازدراءه نابع عن تكبر وهو يجسده على مستوى التلفظ أيضا. فهو يمد عمدا، وبصفة ملحوظة, ضمة الواو فينطق: {دكتووووور}.
وتكون درجة الازدراء متناسبة مع طول الضمة، ومع التركيز على الحروف تركيزا تهكميا، ومع إبراز عروبة الكلمة ونطقها الفصيح...

وفي الأوساط الجامعية فإن شهادة الدكتوراه تفصل بين أصحاب التعليم، وتساهم في التصنيف الذي نشاهده في كل الجامعات: جامعات العلوم الدقيقة والجامعات الأدبية، جامعات الشرق وجامعة الغرب. فالدكتور دكتور في كل المعاهد، وهو أعلى درجة من المعيد المتحصل فقط على الماجستير... وقد يكون المعيد أكثر ثقافة وعلما من الأستاذ، وأحد ذكاء وفطنة، ولكنه يبقى في درجة منخفضة في أعين الجميع.
ورسالة الدكتوراه قد تكون جيدة، فيها ابتكار وبحث حقيقي، وقد تكون رديئة فيها الأخطاء والتناقضات... ولكن السمة الأساسية للدكتوراه تبقى أنها شهادة جامعية... وإنما البحث الحقيقي يبقى بعد هذه الشهادة.


الانتباه إلى نظرة الآخرين للدكتوراه شيء هام بالنسبة لحاملها. فأنت لو كتبت أو نشرت مقالاً في الغرب فإنك تحرج غيرك إن أبرزت شهادتك، وإن كتبت في المشرق فمن الأحسن أن تصدر اسمك بكلمة دكتور أو بدال متبوعة بنقطة.
وأتذكر أنني لما نشرت كتبي الخمسة في المشرق فإنني نهجت نهج الغربيين. فأندري مارتيني، وجاكبسون، وشومسكي لا يذكرون في عناوين كتبهم رتبتهم الجامعية. فشومسكي هو شومسكي صاحب النظرية التحويلية, وجاكبسون هو أبرز أعلام مدرسة براق, ومارتيني هو صاحب المدرسة الوظيفية. أسماءهم تكفي ولا داعي إلى التركيز على الشهادة.
وجعلت اسمي ببساطة دون تصديره بكلمة دكتور أو بهذه الدال الخفية، وفي آخر الغلاف لم أذكر مساري العلمي. وهذا التواضع رجع بالسلب على عملي, إذ ظن الجميع في المشرق أنني لم أدرس في الجامعة لا اللسانيات ولا الصوتيات ولا العروض، وإنما كتبت كل هذا من باب الاجتهاد الفردي... وكل هذا جعلني أندم على تواضع لم يكن في محله...
والكلمات تتغير مدلولاتها مع تغير المجتمعات. ونحن نلاحظ الآن مع انتشار العلوم الإنسانية أن فئة كثيرة من الشبان أصبحت تعطي للأستاذ
حقه من التقدير والعرفان، وصارت تمنح هذه الكلمة دلالات غير دلالات الاحتقار والازدراء.