البداية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لست أدري أين هي البداية... لأن البداية هي بداية شيء. وهذا الشيء ليس واحداً، ولو تابعنا الخط الزمني وقدمنا العلم على الأدب، لقلنا إن المسار بدأ وأنا في السنة الثالثة من التعليم المتوسط مع ثاني درس في الرياضيات.
كانت صدفة نادرة، وحياتي مليئة بالصدف التي ساعدتني على السير في هذا الدرب. الصدفة أني حفظت على غير عادة درس الرياضيات هذا اليوم، ولم أكن أحفظ الدروس إلا قبيل الامتحانات، ولم أكن متفوقاً في هذه المادة، والصدفة الثانية أن أستاذنا كان متميزاً ذا ذكاء خارق للعادة، وقيل إنه يحمل شهادة عالية فلقبناه بالدكتور.
ولم أدر ما حدث هذا الصباح من بداية السنة الدراسية، لعلي نظرت إلى الدكتور نظرة الفاهم فطلب مني أن أذهب إلى السبورة أو أنه فقط اختار في قائمته من بين التلاميذ الثلاثين اسمي بالصدفة. النتيجة هو أنه قال بنبرته الدقيقة مثل علمه: السيد حركات تفضل إلى السبورة.
وذهبت إلى السبورة وأجبت على أسئلته ورأيت بعد الأجوبة نوعاً من الغبطة تظهر على ملامحه، الغبطة التي يشعر بها كل أستاذ عندما يلقى التجاوب لدى تلميذه. وقبل أن يقول لي شكراً ويسمح لي بالرجوع إلى مقعدي، اتفقنا خلال ثانية من الزمن، دون أي كلام، على شيئين: هو على أنني سأكون أفضل تلاميذه في القسم بل وفي الثانوية، وأنا على أنني أختار درب الرياضيات.
في الحقيقة هذه البداية مبتورة أو هي منعرج، لأن بدايتي الحقيقية كانت مع الأدب فكنت أقرأ كثيراً، وأشعر بمتعة كبيرة خلال القراءة، وأحلم بأن أكون في يوم ما كاتبا ذا أهمية. والغريب في الأمر أنني لم أكن أحلم بأن أكون عالم رياضيات، وإنما كل النجاحات التي أحرزت عليها في هذا الميدان جاءت نتيجة الموهبة والعمل...
الميل الأدبي لم يسقط ولكن الممارسات الرياضية امتصته امتصاصاً...
منذ يـوم الصعود إلى السبورة أصبحت الرياضيات شغلي، ونسيت المطالعة والأدب ... وممارسة مادتي المفضلة كانت عبارة عن حل التمارين والمسائل ... فكنت منشغلا بهذه الحلول طوال الوقت حتى في الدروس الأخرى... لا أظن أنني منذ ذلك اليوم استمعت إلى درس في التاريخ أو الجغرافية أو الفرنسية أو العلوم أو حتى الفيزياء. كنت آخذ ورقة صغيرة، وفي الخفاء أحل التمارين الواحد تلو الآخر...
كان الدكتور يتابع تلاميذه حتى الأقسام النهائية، ويختارهم. وكان تدريسه صعب المنوال يعالج فيه البرنامج بطريقته الخاصة، يبدأ مسألة وإذا أنهى أجزاءها يضيف لها ارتجالاً أسئلة. ولم تكن السبورة لتسع رسومه فكان يمد المستقيمات والدوائر على الحائط، صاعداً نازلاً، وأحياناً ينسى أن أمامه قسما كاملا، ضائعا، لا يفهم شيئاً...فينظر إلي ويسألوني، وكأن كل هذه الممارسات تدور بيني وبينه، فيقول: السيد حركات، هل فهمت؟
فأتمتم: نعم ...
سواء فهمت أم لم أفهم ...
وذات يوم رأيت أن أخرج عن نطاق الإجابة عن أسئلة الفرض فبدأت أبحث في اتجاهات مختلفة بطريقة شخصية، ولكن عند إرجاع الفرض قال لي الأستاذ بأن أبحاثي ترعي الانتباه ولكنها خاطئة. ورجعت بهذا إلى الطريق الصحيح: التعليم يقتضي منا في هذه المرحلة التعلم وحده، التعلم بدون بحث ولا ابتكار...
لم أكن أحفظ دوماً دروسي. ذات يوم أجبت على مسألة بطريقة مبتكرة شيقة أعجبت الأستاذ، وكان السبب في ذلك أنني لم أستعمل النظريات التي تطبق على المسألة نتيجة كسلي الذي جعلني لا أراجع هذه النظريات!!!
وشاع في كل الثانوية أن الدكتور صعبت عليه ذات يوم مسألة ولم يجد لها حلا إلا بمساعدتي... لا أذكر هذه الحادثة ولكن قدماء الثانوية مازالوا يتذكرونها...
ذات يوم وقع لي قبل الامتحان حدث في رياضة كرة اليد، فأصابني عطب في يدي وصعبت علي الكتابة، وبعد ربع ساعة من الجهد أرجعت الوثيقة إلى الأستاذ وقد كتبت بعض الأسطر فيها فقط... الدكتور لم يرض بهذا فذهب للإدارة باحثاً عن مراقب ليكتب تحت إملائي... ولكن الإدارة رفضت ... فألغى الأستاذ الامتحان وأعاده بعد شفائي من يدي ...
الطريق كان إذاً معبداً أمامي فأنجزت بعد البكالوريا الليسانس في الرياضيات ولكني لم أطمح إلى دكتوراه في هذه المادة، وذلك أن ميولي الأدبية برزت من جديد...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لست أدري أين هي البداية... لأن البداية هي بداية شيء. وهذا الشيء ليس واحداً، ولو تابعنا الخط الزمني وقدمنا العلم على الأدب، لقلنا إن المسار بدأ وأنا في السنة الثالثة من التعليم المتوسط مع ثاني درس في الرياضيات.
كانت صدفة نادرة، وحياتي مليئة بالصدف التي ساعدتني على السير في هذا الدرب. الصدفة أني حفظت على غير عادة درس الرياضيات هذا اليوم، ولم أكن أحفظ الدروس إلا قبيل الامتحانات، ولم أكن متفوقاً في هذه المادة، والصدفة الثانية أن أستاذنا كان متميزاً ذا ذكاء خارق للعادة، وقيل إنه يحمل شهادة عالية فلقبناه بالدكتور.
ولم أدر ما حدث هذا الصباح من بداية السنة الدراسية، لعلي نظرت إلى الدكتور نظرة الفاهم فطلب مني أن أذهب إلى السبورة أو أنه فقط اختار في قائمته من بين التلاميذ الثلاثين اسمي بالصدفة. النتيجة هو أنه قال بنبرته الدقيقة مثل علمه: السيد حركات تفضل إلى السبورة.
وذهبت إلى السبورة وأجبت على أسئلته ورأيت بعد الأجوبة نوعاً من الغبطة تظهر على ملامحه، الغبطة التي يشعر بها كل أستاذ عندما يلقى التجاوب لدى تلميذه. وقبل أن يقول لي شكراً ويسمح لي بالرجوع إلى مقعدي، اتفقنا خلال ثانية من الزمن، دون أي كلام، على شيئين: هو على أنني سأكون أفضل تلاميذه في القسم بل وفي الثانوية، وأنا على أنني أختار درب الرياضيات.
في الحقيقة هذه البداية مبتورة أو هي منعرج، لأن بدايتي الحقيقية كانت مع الأدب فكنت أقرأ كثيراً، وأشعر بمتعة كبيرة خلال القراءة، وأحلم بأن أكون في يوم ما كاتبا ذا أهمية. والغريب في الأمر أنني لم أكن أحلم بأن أكون عالم رياضيات، وإنما كل النجاحات التي أحرزت عليها في هذا الميدان جاءت نتيجة الموهبة والعمل...
الميل الأدبي لم يسقط ولكن الممارسات الرياضية امتصته امتصاصاً...
منذ يـوم الصعود إلى السبورة أصبحت الرياضيات شغلي، ونسيت المطالعة والأدب ... وممارسة مادتي المفضلة كانت عبارة عن حل التمارين والمسائل ... فكنت منشغلا بهذه الحلول طوال الوقت حتى في الدروس الأخرى... لا أظن أنني منذ ذلك اليوم استمعت إلى درس في التاريخ أو الجغرافية أو الفرنسية أو العلوم أو حتى الفيزياء. كنت آخذ ورقة صغيرة، وفي الخفاء أحل التمارين الواحد تلو الآخر...
كان الدكتور يتابع تلاميذه حتى الأقسام النهائية، ويختارهم. وكان تدريسه صعب المنوال يعالج فيه البرنامج بطريقته الخاصة، يبدأ مسألة وإذا أنهى أجزاءها يضيف لها ارتجالاً أسئلة. ولم تكن السبورة لتسع رسومه فكان يمد المستقيمات والدوائر على الحائط، صاعداً نازلاً، وأحياناً ينسى أن أمامه قسما كاملا، ضائعا، لا يفهم شيئاً...فينظر إلي ويسألوني، وكأن كل هذه الممارسات تدور بيني وبينه، فيقول: السيد حركات، هل فهمت؟
فأتمتم: نعم ...
سواء فهمت أم لم أفهم ...
وذات يوم رأيت أن أخرج عن نطاق الإجابة عن أسئلة الفرض فبدأت أبحث في اتجاهات مختلفة بطريقة شخصية، ولكن عند إرجاع الفرض قال لي الأستاذ بأن أبحاثي ترعي الانتباه ولكنها خاطئة. ورجعت بهذا إلى الطريق الصحيح: التعليم يقتضي منا في هذه المرحلة التعلم وحده، التعلم بدون بحث ولا ابتكار...
لم أكن أحفظ دوماً دروسي. ذات يوم أجبت على مسألة بطريقة مبتكرة شيقة أعجبت الأستاذ، وكان السبب في ذلك أنني لم أستعمل النظريات التي تطبق على المسألة نتيجة كسلي الذي جعلني لا أراجع هذه النظريات!!!
وشاع في كل الثانوية أن الدكتور صعبت عليه ذات يوم مسألة ولم يجد لها حلا إلا بمساعدتي... لا أذكر هذه الحادثة ولكن قدماء الثانوية مازالوا يتذكرونها...
ذات يوم وقع لي قبل الامتحان حدث في رياضة كرة اليد، فأصابني عطب في يدي وصعبت علي الكتابة، وبعد ربع ساعة من الجهد أرجعت الوثيقة إلى الأستاذ وقد كتبت بعض الأسطر فيها فقط... الدكتور لم يرض بهذا فذهب للإدارة باحثاً عن مراقب ليكتب تحت إملائي... ولكن الإدارة رفضت ... فألغى الأستاذ الامتحان وأعاده بعد شفائي من يدي ...
الطريق كان إذاً معبداً أمامي فأنجزت بعد البكالوريا الليسانس في الرياضيات ولكني لم أطمح إلى دكتوراه في هذه المادة، وذلك أن ميولي الأدبية برزت من جديد...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire